فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [15].
النهي عن كثرة الحلف:

.التحليل اللفظي:

{عُرْضَةً} بضم العين أي مانعًا، وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو {عُرْضة} ولهذا يقال للسحاب: عارضٌ، لأنه يمنع رؤية السماء والشمس، واعترض فلانٌ فلانًا أي منعه من فعل ما يريد.
والمعنى: لا تجعلوا الحلف بالله سببًا مانعًا لكم من البر والتقوى، إذا دعي أحدكم لبرٍ أو إصلاح يقول: قد حلفت أن لا أفعله فيتعلّل باليمين.
قال الرازي: المراد النهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر من ذكر شيء فقد جعله عُرْضة له، يقول الرجل: قد جعلتني عُرْضة للومك، وقال الشاعر:
فلا تجعلني عُرْضة للَّوائم

قال الجصاص: المعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء حقًا كان أو باطلًا، فالله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى، وكذلك لا تجعلوا اليمين بالله عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح.
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو} قال الراغب: اللغو في الكلام ما لا يُعتد به، وهو الذي يُورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى لّلغًا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور، وأنشد أبو عبيدة:
عن الّلغا ورفث التكلم

قال الإمام الفخر: اللغو، الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلامًا أو غيره، ولغو الطائر: تصويته، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو.
{يُؤْلُونَ} أي يحلفون، والمصدر إيلاء والاسم منه أليّة والأليّة، والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، قال الشاعر:
فآليتُ لا أنفكّ أحْدو قصيدةً ** تكون وإيّاها بها مثلًا بعدي

هذا هو المعنى اللغوي، وأما في عرف الشرع فهو اليمين على ترك وطء الزوجة.
{تَرَبُّصُ} التربص في اللغة الانتظار ومنه قوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} [الطور: 31] أي انتظروا فأنا من المنتظرين معكم قال الشاعر:
تربّصْ بها ريب المنون لعلّها ** تُطلّقُ يومًا أويموت حليلها

وإضافة التربص إلى الأشهر من إضافة المصدر إلى الظرف.
{فَاءُو} أي رجعوا ومنه قوله تعالى: {حتى تفياء إلى أَمْرِ} [الحجرات: 9] أي ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال فيء لأنه رجع بعد أن تقلص.
قال الفراء: العرب تقول: فلان سريع الفيء والفيئة أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة. قال الشاعر:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ** ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيًا

ومعنى الآية: فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم.

.المعنى الإجمالي:

لا تجعلوا- أيها المؤمنون- الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير، فإذا سئل أحدكم عن أمرٍ فيه برٌّ، وإصلاح، قال: قد حلفت بالله ألاّ أفعله، وأريد أن أبرّ بيميني، فلا تتعللوا باليمين بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم، ولا تكثروا الحلف فتجعلوا الله هدفًا لأيمانكم تبتذلون اسمه المعظم في أمور دنياكم، فإن الحلاّف مجترئ على ربه فلا يكون برًا ولا تقيًا.
لا يؤاخذكم الله بما يجري على ألسنتكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان، والله واسع المغفرة، حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة.
للذين يحلفون منكم على اعتزال نسائهم، ويقسمون على ألاّ يقربوهن للإضرار بهن، على نسوة هؤلاء الحالفين انتظار مدة أقصاها أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف كما أمر الله، فالله يغفر لهم ما صدر منهم من إساءة، وإن صمّموا على الإيلاء من الأزواج، فقد وقعت الفرقة والطلاق بمقضي تلك المدة، والله سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم وأعمالكم.

.سبب النزول:

روي أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، فكان إذا قيل له فيه يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي أن لا أبر بيميني، فأنزل الله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
ذمّ الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] وكان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير:
قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه ** وإن سبقتْ منه الأليّةُ برّت

قال الإمام الفخر: والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان، أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يُؤمنُ إقدامه على اليمين الكاذبة، ومن كمال التعظيم لله أن يكون ذكر الله أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.
اللطيفة الثانية:
ذكر الله العلة في هذا النهي بقوله: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} أي إرادة أن تبروا وتتقوا، فإن قيل: كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى؟
فالجواب: أن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا، والخسائس من أمور الحياة، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر والتقوى.
اللطيفة الثالثة:
قال الإمام الجصاص: قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع من كتابه العزيز، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] يعني كلمة فاحشة قبيحة وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] على هذا المعنى، وقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] يعني الكفر والكلام القبيح، وقال: {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] يعني الكلام الذي لا يفيد شيئًا، وقال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} [الفرقان: 72] يعني الباطل، ويقال: لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
اللطيفة الرابعة:
الحكمة في تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر، هي أن التأديب بالهجر ينبغي ألا يتجاوز هذه المدة، فالمرأة ينفد صبرها عن غياب بعلها هذه المدة، ولا تستطيع أن تصبر أكثر منها.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد هذه الأبيات:
تطاول هذه الليلُ واسودّ جانبُه ** وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبُه

فوا اللهِ لولا الله لا شيء غيرهُ ** لزُعْزع من هذا السرير جوانبُه

مخافة ربي والحياءُ يكفّني ** وإكرام بعلي أن تُنال مراكبُه

فلما كان من الغد سأل عن المرأة أين زوجها؟ فقالوا يا أمير المؤمنين: بعثت به إلى العراق، فاستدعى نساءً فسألهن عن المرأة كم تصبر عن زوجها؟ فقلن شهرًا، وشهرين، ويقلّ صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت المدة استردّ الغازين ووجّه بقومٍ آخرين.
قال القرطبي: هذا يقوّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر والله أعلم.
اللطيفة الخامسة:
روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقًا، قال سعيد بن المسيب: كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها فكان يتركها لا أيّما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، فأزال الله تعالى ذلك الظلم، وأمهل الزوج مدة حتى يتروّى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما المراد باليمين اللغو، وهل فيه كفارة؟

دل قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين اللغو لا إثم فيه ولا كفارة، وقد اختلف الفقهاء في تعريف هذه اليمين على أقوال:
أ- قال الشافعي وأحمد: اللغو في اليمين هو: ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف، كقول الرجل في كلامه: لا والله، وبلى والله دون قصد لليمين، وهذا التأويل منقول عن بعض السلف كعائشة، والشعبي، وعكرمة.
ب- وقال أبو حنيفة ومالك: اللغو في اليمين هو: أن يحلف على شيء يظنه كما يعتقد فيكون بخلافه، وهذا التأويل منقول عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
قال مالك رحمه الله في الموطأ: أحسنُ ما سمعت في هذه أنّ اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد الأمر بخلافه فلا كفارة فيه.
وفي البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وبلى والله.
والصحيح أن اللغو: يشمل النوعين وهو اختيار ابن جرير الطبري فقد قال رحمه لله: واللغو في كلام العرب: كلّ كلام كان مذمومًا، وفعلٍ لا معنى له مهجورًا، فإذا كان اللغو ما وصفتُ، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل، ولقد فعلت كذا وما فعل، على سبيل سبق لسانه، والقائل: والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به، والقائل: لا يفعل كذا والله على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان، على غير تعمد حلفٍ على باطل، جميعهم حالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبُهم، كان معلومًا أنهم لغاةٌ في أيمانهم لا تلزمهم كفارة.

.الحكم الثاني: ما هو الإيلاء، وما هو حكمه؟

تقدم معنا تعريف الإيلاء لغة، وأمّا شرعًا: فهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، كأن يقول: والله لا أقربك، أو لا أجامعك، أو أمثال هذه الكلمات.
قال ابن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقّت الله لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.
واتفق العلماء على أنه لو هجرها مدة تزيد على أربعة أشهر لا يكون مؤليًا حتى يحلف لقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أي يحلفون، وهجرانها ليس بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة، ولا تطلق منه زوجته بالهجر.
واختلفوا في المدة التي تَبِيْنُ فيها المرأة من زوجها، فقال ابن عباس: إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفئ بانت بتطليقة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وقال مالك والشافعي وأحمد: لا تطلق بمضي المدة وإنما يؤمر الزوج بالفيئة الرجوع عن يمينه أو بالطلاق، فإذا امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه.
حجة أبي حنيفة: أن الله تعالى حدّد المدة للفيء بأربعة أشهر، فإذا لم يرجع عن يمينه في هذه المدة فكأنه أراد طلاقها وعز عليها، والعزيمة في الحقيقة إنما هي عقد القلب على الشيء تقول: عزمت على كذا أي عقدت قلبي على فعله فهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي عقدوا عليه قلوبهم، ولم تشترط الآية أن يطلق بالفعل.
حجة الجمهور: أن قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} صريح في أنّ وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، فلا يكفي المدة بل لابد بعدها من الفيء أو الطلاق.
قال الشوكاني في تفسيره فتح لقدير: واعلم أن أهل كل مذهب قد فسّروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدّل عليه اللفظ، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يؤلي: أي يحلف من امرأته أربعة أشهر، ثم قال مخبرًا عباده بحكم هذا المؤلي بعد هذه المدة {فإن فاءوا} أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لا يؤخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي وقع العزم منهم عليه والقصد له {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} لذلك منهم {عَلِيمٌ} به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة.